غزة على حافة المجاعة تداعيات العدوان الإسرائيلي على الأمن الغذائي

مقدمة
يعيش قطاع غزة اليوم واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العصر الحديث، حيث أدى العدوان الإسرائيلي المستمر منذ 7 أكتوبر 2023، إلى تدمير البنية التحتية، ونزوح أكثر من 1.7 مليون شخص، وانهيار شبه كامل للخدمات الأساسية. ومع تصعيد الحصار الإسرائيلي وإغلاق المعابر بشكل كامل، تحول القطاع إلى منطقة منكوبة، تعاني من انعدام شبه تام في الغذاء والمياه والدواء والوقود.
أصبحت المجاعة تهدد حياة جميع سكان القطاع البالغ عددهم 2.2 مليون شخص، حيث تفيد تقارير الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية أن غزة باتت "غير صالحة للحياة" بسبب استهداف الأنظمة الغذائية، وتعمد تعطيل تدفق المساعدات الإنسانية، ووفقًا لتقديرات مجموعة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، فإن جميع سكان غزة يعيشون الآن في أزمة غذائية حادة، مع تصنيف نصفهم تقريبًا في مرحلة الطوارئ، وأكثر من 500 ألف شخص يواجهون ظروفًا شبيهة بالمجاعة.
لم تعد الأزمة مقتصرة على ندرة الغذاء، بل تجاوزت ذلك إلى انهيار شامل في قدرة السكان على الوصول إليه، سواء من خلال الإنتاج المحلي، الذي دُمّر بفعل القصف والتجويع المتعمد، أو من خلال الأسواق التي أصبحت شبه فارغة مع ارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة، أو حتى عبر المساعدات الإنسانية التي لم تعد تصل بسبب الإغلاق الكامل للمعابر والقيود الصارمة المفروضة من الاحتلال الإسرائيلي.
تهدف هذه الورقة إلى تحليل التأثير المدمر للعدوان الإسرائيلي على الأمن الغذائي في غزة، من خلال استعراض الوضع السابق للأزمة، والتداعيات الحالية، والعوامل التي أدت إلى تفاقمها، إضافة إلى تقديم توصيات عاجلة للتعامل مع هذه الكارثة الإنسانية قبل أن تصل إلى نقطة اللاعودة.
الأمن الغذائي: المفهوم والسياق في غزة
تعريف الأمن الغذائي
يتحقق الأمن الغذائي عندما يكون لدى جميع الأفراد، في جميع الأوقات، إمكانية الوصول المادي والاقتصادي إلى غذاء كافٍ وآمن ومغذٍ يلبي احتياجاتهم الغذائية وأفضلياتهم الغذائية من أجل حياة نشطة وصحية.
الوضع السابق للأمن الغذائي في غزة
قبل العدوان الأخير، كانت غزة تعاني بالفعل من مستويات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائي بسبب الحصار المفروض منذ عام 2007، ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، بلغ معدل انعدام الأمن الغذائي في قطاع غزة عام 2020 نحو63% من السكان، وكانت الأسباب الرئيسية تشمل الفقر، البطالة، ضعف القدرة الشرائية، وانخفاض الإنتاج الزراعي.
من العوامل الأساسية التي أدت إلى تدهور الأمن الغذائي في غزة:
- تراجع القدرة الشرائية: بسبب ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، حيث وصلت نسبة الفقر المدقع إلى 33.8% وبلغ معدل البطالة 46% في الربع الأول من عام 2023.
- تدمير البنية التحتية الزراعية: تعرضت الأراضي الزراعية، ومرافق الري، والطاقة، ومنشآت الإنتاج الغذائي لأضرار جسيمة نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة.
- قيود الاحتلال: فرض الاحتلال قيودًا على استيراد مدخلات الإنتاج الزراعي، كما قيدت الوصول إلى الأراضي الزراعية، وصيد الأسماك، مما زاد من اعتماد غزة على الأسواق الإسرائيلية والدولية، حيث يتم استيراد 91% من القمح و95% من الزيوت النباتية من خارج القطاع.
تصاعد أزمة الأمن الغذائي بعد الحرب على غزة
بعد الحرب التي شنها الاحتلال على غزة في 7 أكتوبر 2023 وصل انعدام الأمن الغذائي إلى مستويات خطيرة، فقد ارتفعت أعلى مستوياتها عالميًا، ووفقًا لتقديرات مجموعة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، تم تصنيف جميع سكان قطاع غزة ضمن المرحلة الثالثة (مرحلة الأزمة أو أسوأ) في الفترة من 8 ديسمبر 2023 إلى 7 فبراير 2024، وهي أعلى نسبة تصنيف في أي منطقة على الإطلاق.
من بين هؤلاء:
- 50% من السكان (1.17 مليون شخص) في حالة طوارئ غذائية (المرحلة الرابعة).
- أكثر من 500,000 شخص يعانون من أوضاع شبيهة بالمجاعة، حيث يعانون من نقص شديد في الغذاء، والجوع، واستنفاد آليات التكيف.
على الرغم من عدم تجاوز معدلات سوء التغذية الحاد والوفيات عتبة المجاعة رسميًا، فإن استمرار الحصار وتفاقم الأزمة ينذران بتطور الوضع إلى مستويات كارثية خلال الأسابيع المقبلة.
العوامل المساهمة في تفاقم الأزمة الغذائية
- انقطاع الإمدادات الغذائية والتجارية
- توقف تدفق السلع التجارية عبر المعابر بسبب القيود الإسرائيلية.
- نقص الوقود أدى إلى تعطيل تشغيل مطاحن الدقيق والمخابز، مما أثر على إنتاج الخبز.
- تضرر البنية التحتية للنقل والأسواق، مما صعّب توزيع المساعدات.
- ارتفاع الأسعار وانخفاض القدرة الشرائية
- زادت أسعار دقيق القمح بنسبة 50% منذ بدء العدوان.
- ارتفعت أسعار الخضروات بنسبة 200%، والوقود بأكثر من 500%.
- توقفت خمس مطاحن رئيسية عن العمل بسبب نقص الوقود.
- النزوح الجماعي وفقدان مصادر الدخل
- نزح أكثر من 1.7 مليون شخص من منازلهم، ما أدى إلى تعطل سبل العيش.
- تضررت قطاعات حيوية مثل الزراعة، وصيد الأسماك، والصناعات الغذائية، مما أدى إلى فقدان آلاف الوظائف.
- القيود على المساعدات الإنسانية
- لم تدخل سوى 30%-40%من الاحتياجات الغذائية الفعلية لسكان غزة، وفق تقارير المنظمات الدولية.
- لا تزال عمليات دخول الشاحنات عبر معبر رفح وكرم أبو سالم محدودة وغير منتظمة، حيث لم تصل إلى المعدل المطلوب وهو 500 شاحنة يوميًا.
- انهيار النظام الصحي وتأثيره على التغذية
- دُمِّر أكثر من 70% من المستشفيات والمرافق الصحية، مما أدى إلى نقص في الخدمات الطبية.
- أدى تراجع الرعاية الصحية إلى تفاقم سوء التغذية، خاصة بين الأطفال والمرضى.
- نقص المياه وتأثيره على الأمن الغذائي
- تم قطع إمدادات المياه، مما أدى إلى استخدام السكان لمياه غير آمنة.
- أدى نقص المياه إلى تعطل الإنتاج الزراعي وتربية المواشي، مما زاد من نقص الغذاء.
استئناف العدوان الإسرائيلي وإحكام الحصار: تفاقم الكارثة الإنسانية
بعد أكثر من شهر من الإغلاق الكامل للمعابر (2مارس 2025) ومنع دخول أي مساعدات إنسانية أو إمدادات غذائية، عاد الاحتلال الإسرائيلي إلى شن عدوانه مجددًا على قطاع غزة، ما أدى إلى تفاقم الكارثة الإنسانية وازدياد معاناة السكان الذين باتوا محاصرين في ظروف غير إنسانية، فقد استُؤنف القصف العنيف على مختلف مناطق القطاع فجر 18 مارس 2025، وإصدار الاحتلال أوامر إخلاء جديدة في مناطق مختلفة من قطاع غزة ولجوء مئات الآلاف من النازحين بحثًا عن مأوى، مما أدى إلى مزيد من الضحايا وتدمير ما تبقى من البنية التحتية الأساسية.
في ظل هذا العدوان المتجدد، أصبحت غزة منطقة مجاعة فعلية، حيث انعدمت تقريبًا جميع مصادر الغذاء، ونفدت المخزونات الغذائية في الأسواق والمستودعات، بينما ارتفعت أسعار ما تبقى من المواد الأساسية إلى مستويات غير مسبوقة، ما جعلها بعيدة عن متناول معظم السكان. ومع استمرار الحصار ومنع دخول الوقود والمساعدات، تعطلت المخابز والمطاحن تمامًا، كما توقفت المستشفيات عن تقديم الرعاية الصحية بسبب نفاد الإمدادات الطبية والطاقة، ما زاد من معدلات الوفيات، خاصة بين الأطفال وكبار السن والمرضى.
لقد أدى هذا الوضع إلى فقدان المواطنين في القطاع إلى فقدان مقومات الحياة، وسط استمرار القصف والجوع وانعدام المأوى، وفي ظل غياب تحرك دولي حاسم لإنهاء الحصار وإدخال المساعدات، فإن السيناريو الأسوأ، المتمثل في مجاعة جماعية وارتفاع حاد في أعداد الضحايا، أصبح أكثر اقترابًا من الواقع.
شهادات ميدانية:
وفي شهادات ميدانية وردت في تقرير مارس 2025 الصادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش:
"لم نأكل منذ يومين، أطفالي يبكون من الجوع، لا يوجد إلا فتات الخبز والماء المالح." – لاجئة في رفح، مارس 2025.
"نبحث في القمامة عن بقايا الطعام... الناس بدأوا يأكلون العشب للبقاء على قيد الحياة." – طبيب في خان يونس.
التجويع كسلاح حرب: البعد القانوني للكارثة
يرتكب الكيان الإسرائيلي "جريمة حرب" وفق القانون الدولي، وبحسب المادة 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يعد "التجويع المتعمد للسكان المدنيين" جريمة حرب، ومع ذلك، تواصل حكومة الاحتلال استخدام الحصار الشامل لإجبار المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة على الموت جوعًا، في انتهاك صارخ لكل القوانين الدولية.
وفي تصريح صادر عن المفوض السامي لحقوق الإنسان في تقرير مارس 2025، جاء فيه:"إسرائيل تستخدم الغذاء كسلاح حرب في غزة، وهو تكتيك محظور دوليًا يمكن أن يصل إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية."
أدلة قانونية على جريمة التجويع:
- إغلاق المعابر بالكامل ومنع دخول الإمدادات الغذائية والطبية.
- استهداف مباشر للمنشآت الزراعية والأسواق والمخابز والمستودعات الغذائية.
- منع عمليات الإغاثة الإنسانية ورفض فتح ممرات آمنة للمساعدات.
- حرمان السكان من المياه النظيفة، مما يفاقم سوء التغذية والأمراض.
الخلاصة
تشهد غزة اليوم أسوأ كارثة إنسانية في تاريخها، حيث بات أكثر من 2.2 مليون فلسطيني محاصرين في ظروف قاسية نتيجة العدوان الإسرائيلي المتواصل، الذي تفاقم بشكل غير مسبوق منذ استئنافه بعد نقض حكومة الاحتلال لوقف إطلاق النار واستمرارها في إغلاق جميع المعابر منذ أكثر من شهر تقريبا (2 ماس2025)، وأدى هذا الحصار المشدد إلى انهيار شامل للأمن الغذائي، حيث لم تعد أي مصادر للغذاء متاحة، سواء عبر الإنتاج المحلي، أو الأسواق، أو حتى المساعدات الإنسانية التي مُنعت بالكامل من الوصول إلى القطاع.
على مدار الأسابيع الأخيرة، تفاقمت أزمة الجوع حتى باتت تهدد حياة السكان بمجاعة جماعية، إذ تشير التقديرات إلى أن 500,000 شخص يعيشون في ظروف شبيهة بالمجاعة، بينما بات الجميع في غزة يعاني من مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي، ومع توقف المخابز والمطاحن، وغياب المواد الغذائية الأساسية، وارتفاع الأسعار إلى مستويات خيالية، لم يعد لدى السكان أي وسيلة للحصول على الغذاء.
زاد استئناف القصف الإسرائيلي من تدمير ما تبقى من البنية التحتية، كما أدى استمرار العدوان إلى تفاقم أزمة المياه والطاقة، ما جعل حتى ما تبقى من إمدادات الغذاء غير صالح للاستهلاك بسبب عدم القدرة على تخزينه أو طهيه، ومع انهيار المنظومة الصحية، وحرمان السكان من الرعاية الطبية.
لم يعد الوضع في غزة مجرد "أزمة إنسانية"، بل تحول إلى إبادة جماعية عبر سياسة التجويع الممنهج، حيث تُستخدم المجاعة كأداة للحرب، في انتهاك صارخ لكل القوانين الدولية والإنسانية. إن استمرار هذا الوضع دون تدخل فوري لإنهاء الحصار وفتح المعابر سيؤدي إلى كارثة غير مسبوقة، قد تكون الأخطر في العصر الحديث.
لذلك، فإن المجتمع الدولي مطالب بتحرك عاجل وفوري، للضغط على الاحتلال الإسرائيلي لوقف العدوان فورًا، وفتح جميع المعابر دون قيود، وإدخال المساعدات الإنسانية والغذائية والطبية بشكل مستدام، كما يجب تكثيف الجهود لدعم القطاعات الإنتاجية المتضررة، وضمان تدفق الإمدادات الغذائية، وإعادة بناء منظومة الأمن الغذائي في غزة.
إن الوقت ينفد، وكل يوم يمر دون تدخل يعني مزيدًا من الضحايا، ومزيدًا من المعاناة لشعب محاصر يُحكم عليه بالموت جوعًا.
توصيات المركز
- تفعيل الضغوط الدولية على حكومة الاحتلال من خلال الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والدول الفاعلة لإجبارها على فتح المعابر فورًا، والسماح بإدخال المساعدات الغذائية والوقود دون قيود.
- التحرك القانوني لمحاكمة الاحتلال دوليًا بتهمة استخدام التجويع كسلاح حرب، وهو ما يعد جريمة حرب وفق القانون الدولي الإنساني، ويجب تقديم أدلة موثقة لمحكمة الجنايات الدولية، وتفعيل الآليات الدولية لمحاسبة الكيان الإسرائيلي على هذه الانتهاكات.
- حشد الرأي العام العالمي من خلال وسائل الإعلام الدولية ومؤسسات حقوق الإنسان، وفضح الممارسات الإسرائيلية التي تهدف إلى تجويع السكان كوسيلة للعقاب الجماعي.
- تعزيز الدور العربي والإسلامي والضغط على الدول التي تربطها علاقات بالكيان الإسرائيلي لاستخدام نفوذها لإجبار الاحتلال على السماح بتدفق الإمدادات الإنسانية.
- المطالبة بفتح ممرات إنسانية عاجلة تحت إشراف دولي، وفرض آليات رقابة أممية لضمان تدفق الغذاء والوقود، ومنع الاحتلال من عرقلة إدخال الإمدادات الأساسية.
- توفير دعم مالي مباشر للأسر الأكثر تضررًا، عبر منح نقدية عاجلة من المؤسسات الإغاثية لمساعدة العائلات على شراء ما تبقى من الغذاء في الأسواق المحلية.
- تأمين إمدادات غذائية خاصة للأطفال وكبار السن، مثل الحليب المجفف، والمكملات الغذائية، عبر جهود إغاثية دولية عاجلة.
- إعادة تأهيل شبكات المياه المدمرة لضمان وصول مياه صالحة للشرب، وهو ما يسهم في الحد من الأمراض المرتبطة بسوء التغذية والجفاف.
- إطلاق حملة دولية لجمع الأدلة حول استخدام التجويع كسلاح حرب، وتقديم تقارير موثقة إلى الهيئات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية.
- توسيع نطاق التحقيقات الصحفية والحقوقية لتوثيق شهادات الناجين، وإعداد تقارير تفصيلية حول آثار الحصار على الحياة اليومية في غزة.