النكبة المستمرة: من تهجير 1948 إلى مخاطر التطهير الديمغرافي في غزة

مركز الدراسات السياسية والتنموية
مقدمة
في ظل التصريحات الأخيرة لمسؤولين أمريكيين، ومن بينها تصريحات الرئيس دونالد ترامب بشأن مقترحات نقل سكان قطاع غزة وتحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، تتجدد التساؤلات حول استمرار ظاهرة التهجير القسري التي عانى منها الشعب الفلسطيني منذ النكبة عام 1948، وتُصنّف هذه الظاهرة، وفقاً للقانون الدولي، ضمن جرائم ضد الإنسانية، وتشكل حجر الزاوية في إعادة تشكيل الهوية السكانية والسياسية لفلسطين، وتهدف هذه الورقة إلى استعراض مراحل التهجير القسري منذ عام 1948، وتحليل السياسات والمخططات التي أدت إلى تجريف النسيج الاجتماعي الفلسطيني، مع تسليط الضوء على المخاطر الراهنة لمشروعات التطهير الديمغرافي في غزة في ظل التصعيد الإقليمي والدولي.
مفهوم التهجير القسري
يُعرّف التهجير القسري بأنه العملية المنهجية التي تُنفّذها حكومات أو جماعات مسلحة أو متعصبة ضد مجموعات سكانية معينة بهدف إخلاء مناطق سكنية وإحلال مجموعات أخرى مكانها. ويتجلى ذلك في شكلين رئيسيين:
- التهجير المباشر: حيث يتم ترحيل السكان بالقوة.
- التهجير غير المباشر: الذي يعتمد على أساليب الضغط والترهيب والدفع نحو الرحيل دون استخدام القوة المفرطة.
لمحة تاريخية عن التهجير القسري
شهد العالم عبر التاريخ العديد من حالات التهجير القسري نتيجة صراعات داخلية وصراعات دينية وعرقية، ومن أمثلة ذلك:
- إخراج أهل مكة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم في التاريخ الإسلامي.
- تهجير تتار القرم عام 1944 بأمر من جوزيف ستالين.
- النكبة عام 1948 التي أدّت إلى تهجير جماعي للفلسطينيين وتشتيت مجتمعهم واستيلاء الاحتلال على ممتلكاتهم، ولا يزال أثرها قائماً حتى اليوم.
الموقف القانوني الدولي من التهجير القسري
يُعد التهجير القسري جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية وفق نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، كما تنص المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة على حظر نقل السكان بالقوة أو نفيهم من مناطق سكناهم، باستثناء الحالات التي تصب في مصلحتهم في حالات النزاع المسلح، وتُستند مطالبة اللاجئين الفلسطينيين بحق العودة وتعويض الأضرار إلى قرار الأمم المتحدة رقم 194 الذي يؤكد هذا الحق.
الحالة الفلسطينية وتداعيات التهجير
أ. النكبة عام 1948: الجريمة التأسيسية للتهجير
شهد عام 1948 تهجيراً جماعياً لأكثر من 700,000 فلسطيني، ما أسفر عن تشتيت النسيج الاجتماعي واستيلاء الاحتلال على ممتلكاتهم، وما زالت آثار هذه الأحداث تؤثر على الواقع السياسي والاجتماعي للفلسطينيين.
ب. العوامل المؤدية للتهجير
تعددت أسباب التهجير من ضمنها:
- العمليات العسكرية المباشرة وتدمير القرى.
- الحرب النفسية ومجازر مثل مجزرة دير ياسين التي بثت حالة من الرعب.
- السياسات والتشريعات الإسرائيلية التي منعت عودة المهجّرين واستيلائها على الأراضي عبر قوانين مثل قانون منع التسلل وقوانين أملاك الغائبين.
نكسة 1967 والتهجير الثاني
أسفرت حرب 1967 عن تهجير إضافي يقدر بنحو 280 إلى 325 ألف فلسطيني من الأراضي المحتلة، مما عمّق أزمة اللاجئين الفلسطينيين وغير تركيبة السكان داخل الأراضي التي كانت تحت الانتداب سابقاً.
محاولات التهجير في العقود الأخيرة
يأتي القسم التالي لتفصيل مخططات التهجير التاريخية التي حاولت تحقيق تغيير جذري في التوزيع السكاني عبر مقترحات محددة:
محاولات الترانسفير في عام 1953
اقترحت حكومة الاحتلال آنذاك ترحيل الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء المصرية ضمن مخطط أُطلق عليه اسم "خطة سيناء"، ودعمت واشنطن في ذلك الوقت هذه الخطة، وتم التواصل مع السلطات المصرية بشأنها، حتى سعت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) لتحقيقها تحت حجة أن قطاع غزة لا يصلح للسكن على المدى الطويل.
وفي مطلع مارس 1955، اندلعت تظاهرة حاشدة من مدرسة "فلسطين الرسمية" في مدينة غزة، بمشاركة معلميها وطلابها وسائقي السيارات والباصات وأصحاب الدكاكين، وهتف المشاركون بـ "لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان"، وهو ما عرف لاحقاً بأحداث "هبة آذار" التي أفشلت تنفيذ الخطة.
مشروع ليفي أشكول عام 1965
مع حلول عام 1965، طرح رئيس حكومة الاحتلال آنذاك، ليفي أشكول، مشروعاً يقضي بتوجيه جزء من الموارد الكبيرة للمنطقة نحو إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين ودمجهم في الدول العربية، مع استعداد الكيان الإسرائيلي للمساهمة المالية إلى جانب الدول الكبرى في هذه العملية، ورغم رفض الدول العربية المحيطة لهذا المشروع، شكلت هذه المحاولة نقطة تحول مع بداية تأسيس الفلسطينيين لأجسام سياسية تسعى لإقامة وطن خاص بهم، وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية.
خطة ألون لعام 1967
قدم السياسي والقائد العسكري الإسرائيلي إيجال ألون خطةً للمجلس الوزراء الإسرائيلي في يوليو 1967، مباشرة بعد انتهاء الحرب، بهدف فرض تسوية إقليمية تتضمن إقامة حدود أمنية للكيان الإسرائيلي ووقف سيطرة السكان العرب، مع محاولة تحقيق الحق التاريخي (المزعوم) على أراضي فلسطين. وفيما يتعلق بقطاع غزة، اقتُرح ضمه بالكامل إلى الكيان الإسرائيلي مع تهجير اللاجئين إلى الأراضي العربية المجاورة، خاصة مصر، بعد إعادة سيناء إليها مع الاحتفاظ بالساحل الجنوبي الشرقي لسيناء تحت السيطرة الإسرائيلية.
خطة شارون عام 1970
قدم أرئيل شارون، الذي كان آنذاك قائدًا عسكريًا وأصبح فيما بعد رئيس وزراء، مقترحاً في عام 1970 لتفريغ قطاع غزة من سكانه، وتضمن المشروع نقل مئات العائلات الفلسطينية بواسطة حافلات عسكرية إلى مناطق مثل سيناء، مع توجيه بعض العائلات نحو العريش على حدود غزة، كما شمل المشروع منح تصاريح للفلسطينيين الراغبين في المغادرة للدراسة والعمل في مصر مع توفير حوافز مالية لتشجيعهم، بهدف تخفيف الاكتظاظ السكاني وإضعاف المقاومة.
خطة آيلاند لعام 2004
قدم مستشار الأمن القومي الصهيوني جيورا أيلاند في عام 2004 مشروعاً نص على تنازل مصر عن مناطق من سيناء بمساحة 720 كيلومترًا مربعًا، بهدف توسيع قطاع غزة ليصل حجمه إلى ما يقارب ثلاثة أضعاف حجمه الحالي (365 كيلومترًا مربعًا). وبالمقابل، كان من المقرر أن يتنازل الكيان الإسرائيلي عن 12% من أراضي الضفة الغربية، بما في ذلك الكتل الاستيطانية الكبرى، مع تبادل أراضٍ في جنوب غرب النقب، وإنشاء ارتباط بري بين مصر والأردن عبر قناة مقترحة.
خطة بن آريه لعام 2013
قدم يوشع بن آريه، الرئيس السابق للجامعة العبرية، في عام 2013 مشروع "إقامة وطن بديل للفلسطينيين في سيناء"، استنادًا إلى مبدأ تبادل الأراضي بين مصر والكيان الإسرائيلي وفلسطين، وتضمن المشروع تخصيص أراضٍ في سيناء للدولة الفلسطينية، لا سيما منطقة العريش مع إنشاء ميناء بحري، وتطوير مدينة متكاملة ببنية تحتية قوية ومحطة لتوليد الكهرباء، ومشروع لتحلية المياه، وفي المقابل، كان من المقرر أن تحصل مصر على أراضٍ في صحراء النقب جنوب فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨ بمساحة تقارب تلك المخصصة للفلسطينيين.
وثيقة سرية للمخابرات الإسرائيلية عقب عملية طوفان الأقصى
بعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر، دعت وزيرة المخابرات الإسرائيلية جيلا جمليئيل في وثيقة سرية داخلية إلى خطة لتهجير سكان غزة إلى سيناء عبر ثلاث مراحل:
- أولاً، إنشاء مدن خيام في سيناء جنوب غرب غزة؛
- ثانياً، إقامة ممر إنساني لمساعدة السكان؛
- ثالثاً، بناء مدن في الضفة الغربية من منطقة شمال سيناء.
أشارت الوثيقة إلى ضرورة التعاون مع عدد من الدول لاستقبال النازحين، وقد وصل محتواها إلى مجموعة أسست حركة "مقر الاستيطان – قطاع غزة"، التي تسعى إلى إعادة استيطان القطاع، كما نقلت صحيفة "إسرائيل اليوم" تقريراً يفيد بأن وزير الشؤون الاستراتيجية ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو غرسا فكرة التهجير الطوعي للفلسطينيين في لقاء مع دونالد ترامب قبل توليه الرئاسة الأمريكية.
مخططات التهجير القسري في قطاع غزة حاليا وخطة ترامب
في ظل الصراع الدائر على قطاع غزة، برزت مقترحات تتعلق بتهجير سكان القطاع كجزء من خطة سياسية متكاملة.
- مقترح ترامب: تناول ترامب فكرة نقل سكان غزة بالكامل وتحويل القطاع إلى نموذج تنموي جديد، إذ وصفه بـ"ريفييرا الشرق الأوسط"، ورغم أن هذه التصريحات قوبلت باستنكار واسع على المستويين العربي والدولي، فإنها تعكس جدية بعض الفاعلين في محاولة تغيير الواقع الديمغرافي بالقوة.
- ردود الفعل: أكدت الدول العربية – من بينها مصر والأردن والسعودية – على ضرورة بقاء الفلسطينيين في أرضهم، رافضةً أي محاولات لتهجيرهم، بينما أعرب المجتمع الدولي عن قلقه من انتهاك القانون الدولي وضرورة حماية حقوق الإنسان.
التحرك العربي لمواجهة مخططات التهجير
اتخذت الدول العربية خطوات موحدة للتصدي لمقترحات التهجير، شملت تنسيق مبادرات دبلوماسية وطرح بدائل لإعادة إعمار قطاع غزة دون تهجير سكانه، وشملت هذه الجهود:
عقد قمم طارئة لمناقشة الوضع.
طرح رؤية لإعادة إعمار غزة تحافظ على النسيج الاجتماعي الفلسطيني.
إعداد مقترحات لإنشاء لجنة فلسطينية لحكم القطاع بعيداً عن الجهات المسلحة.
مسؤولية المجتمع الدولي
يتوجب على المجتمع الدولي الاضطلاع بدور فعّال في حماية حقوق الفلسطينيين عبر:
- الدعوة لعقد اجتماعات طارئة لمجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة للأمم المتحدة للتنديد بمخططات التهجير.
- إصدار قرارات دولية تفرض عقوبات على الانتهاكات المستمرة.
- دعم الإجراءات القانونية أمام المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة المسؤولين عن جرائم التهجير.
خلاصة
تشير الوقائع التاريخية والتحليلات الراهنة إلى أن السياسات والمخططات التي اتبعتها أنظمة الاحتلال لتحقيق التهجير القسري قد ساهمت في تجريف الهوية الفلسطينية وترسيخ السيطرة على أراضيها، وفي ظل التصريحات والمقترحات الحالية، يصبح من الضروري توحيد الجهود الدولية والعربية لحماية حقوق الفلسطينيين وضمان بقاءهم على أرضهم، ويعتمد نجاح هذه المساعي على وحدة الصف الفلسطيني وتكاتف المواقف الدولية لمواجهة أي محاولات لتغيير الواقع الديمغرافي بالقوة.
التوصيات
- ضرورة اتخاذ موقف حازم من قبل الشعب الفلسطيني والدول العربية لرفض أي مخططات تهجير.
- تجاوز الانقسامات الداخلية بين الفلسطينيين لتشكيل جبهة موحدة في مواجهة السياسات الخارجية التي تهدد وجودهم.
- تكثيف الحملات الدولية للضغط على الجهات المسؤولة عن انتهاك حقوق الإنسان.
- إطلاق حملة إعلامية شاملة لشرح القضية الفلسطينية وحقهم في البقاء على أرضهم وضرورة دعمهم وحمايتهم من مخططات التهجير.
- دعوة خبراء ومثقفين وصحفيين لإجراء نقاشات وورش عمل حول موضوع التهجير وحقوق اللاجئين الفلسطينيين.
- عقد ندوات افتراضية أو ميدانية تركز على دور الإعلام في تسليط الضوء على الجرائم الإنسانية ومخاطر التطهير الديمغرافي.