الحرب على غزة وانعكاساتها على المجتمع المدني: تقييم الواقع وتحديات المستقبل

مركز الدراسات السياسية والتنموية
مقدمة
شهد قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 واحدة من أكثر الحروب دموية وتدميرًا، مستهدفةً كل مظاهر الحياة المدنية، بما في ذلك المؤسسات الصحية والتعليمية والإغاثية،ووجدت منظمات المجتمع المدني نفسها في قلب الأزمة، تواجه الاستهداف المباشر ومحاولات تقويض دورها وتجفيف مصادر تمويلها.
أدى القصف العنيف إلى تدمير شبه كامل للبنية التحتية للمنظمات المدنية، حيث فقد العديد من الموظفين حياتهم أو أُصيبوا أو اضطروا إلى الفرار، مما أدى إلى شلل جزئي أو كلي لعمل هذه المؤسسات، علاوة على ذلك، أوقفت العديد من الجهات المانحة تمويلها أو فرضت قيودًا إضافية، مما زاد من تعقيد المشهد.
تهدف هذه الورقة إلى تقييم تأثير الحرب على منظمات المجتمع المدني في غزة، وتسليط الضوء على أدوارها، والتحديات التي تواجهها، والملاحظات على أدائها.
منظمات المجتمع المدني ودورها في الأزمات
منظمات المجتمع المدني هي كيانات تطوعية مستقلة عن الحكومة والقطاع الخاص، تهدف إلى خدمة المجتمع وتعزيز قيم العدالة والتنمية. في ظل الحروب والأزمات، تلعب هذه المنظمات دورًا محوريًا في تقديم الإغاثة الإنسانية، توثيق الانتهاكات، وتمكين الفئات المتضررة.
أبرز سمات منظمات المجتمع المدني:
- الاستقلالية المالية والإدارية.
- التركيز على خدمة المجتمع والمصلحة العامة.
- دورها الحيوي في ترسيخ الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان.
- تنوعها ما بين جمعيات، شبكات، ومبادرات أهلية وحركات اجتماعية.
- العمل في مختلف المجالات الإنسانية والتنموية.
الاستهداف الإسرائيلي لمنظمات المجتمع المدني
أقدمت سلطات الاحتلال على تصنيف عدد من منظمات المجتمع المدني الفلسطينية كمنظمات "إرهابية"، بهدف تقويض عملها وتشويه صورتها عالميًا، ومن أبرز هذه المنظمات:
- مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان.
- مركز بيسان للدراسات والتنمية.
- مؤسسة الحق لحقوق الإنسان.
- اتحاد لجان العمل الزراعي.
- اتحاد لجان المرأة الفلسطينية.
- الحملة العالمية للدفاع عن الأطفال.
تأثير الحرب على منظمات المجتمع المدني في غزة
1- التدمير المادي للبنية التحتية
- تم تدمير أو إلحاق أضرار جسيمة بأكثر من 250 مقرًا لمنظمات المجتمع المدني (PNGO).
- استهداف 26 مستشفى ومرفقًا صحيًا، مما أدى إلى انهيار النظام الصحي (WHO).
أمثلة ميدانية:
- قصف مستشفى العودة أدى إلى تدمير أقسام الطوارئ والجراحة.
- مستشفى الوفاء تعرض لهجوم مباشر، ما أسفر عن مقتل طواقمه وإجلاء المرضى تحت القصف.
- تدمير مستودعات بنك الطعام الفلسطيني، ما أدى إلى فقدان 200 طن من المساعدات الغذائية.
2- استهداف الكوادر البشرية
- استشهاد أكثر من 120 موظفًا في القطاع الإغاثي أثناء تأدية مهامهم (الأمم المتحدة).
- استشهاد عدد من الأطباء والمسعفين أثناء إنقاذ الجرحى.
3- تراجع التمويل والدعم الدولي
- 70% من المنظمات الأهلية فقدت جزءًا من تمويلها أو تم تجميده (UNDP).
- تعليق تمويل مؤسسات فلسطينية بسبب الضغوط الإسرائيلية.
أمثلة ميدانية:
- وقف التمويل الأمريكي لمشاريع تنموية بحجة إعادة تقييم استخدام الأموال.
- تجميد تمويل مؤسسة الضمير بعد تصنيفها كمنظمة "إرهابية".
دور منظمات المجتمع المدني خلال الحرب
- تقديم الإغاثة الإنسانية
- إيواء أكثر من 1.5 مليون نازح في مدارس الأونروا والمستشفيات.
- استقبال المستشفيات الميدانية أكثر من 50,000 مصاب في الأسابيع الأولى للعدوان.
- توثيق الانتهاكات ورفع التقارير الحقوقية
- توثيق أكثر من 30,000 صورة وفيديو لجرائم الحرب (المرصد الأورومتوسطي).
- تقديم 6 ملفات قانونية إلى المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم الإبادة الجماعية.
أمثلة ميدانية:
- مركز الميزان كشف عن استخدام القنابل الفسفورية ضد المدنيين.
- منظمة الحق وثقت شهادات 500 ناجٍ من القصف.
التحديات المستقبلية التي تواجه المجتمع المدني في غزة
- نقص الموارد والإمدادات الطبية: الحاجة إلى 10 ملايين دولار لشراء المستلزمات الأساسية
- . استمرار الحصار الإسرائيلي: قيود صارمة على إدخال المساعدات وعرقلة عمل المنظمات.
- تراجع الدعم الدولي: تحول أولويات المانحين إلى أزمات أخرى
- الاستهداف الأمني للناشطين والمؤسسات الحقوقية: التضييق على أنشطة التوثيق والمناصرة.
مخاطر تهدد مستقبل منظمات المجتمع المدني
- فرض شروط تمويلية مشددة تقيد استقلالية العمل الإغاثي.
- تغير أجندات الممولين الدوليين.
- تحديات التطبيع ومحاولات دمج المؤسسات الفلسطينية في أطر سياسية غير وطنية.
- غياب التمويل المحلي وضعف التكافل الاجتماعي.
ملاحظات على أداء المنظمات خلال الحرب
أدت الحرب الأخيرة على غزة إلى اختبار حقيقي لقدرة مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية على الاستجابة للأزمة، خاصة في مجالات الإغاثة، التوثيق، الدعم النفسي، ورغم الجهود المبذولة، إلا أن هناك العديد من الملاحظات التي برزت خلال هذه الفترة، مما يستدعي تقييمًا موضوعيًا لأدائها.
1- ضعف التنسيق والتكامل بين المؤسسات
- غابت آليات التنسيق الفعالة بين المؤسسات المختلفة، مما أدى إلى تكرار الجهود في بعض المناطق وغيابها في مناطق أخرى.
- لم تكن هناك خطط استجابة مشتركة واضحة، ما أثر على سرعة وكفاءة تقديم المساعدات.
- ضعف التنسيق مع الجهات الحكومية والفصائل السياسية، مما أدى إلى عقبات في إيصال المساعدات للمحتاجين.
2- ضعف القدرة على التوثيق والترافع الدولي
- لم تستطع العديد من المؤسسات توفير توثيق سريع ومنهجي للانتهاكات التي جرت خلال الحرب، ما أضعف التأثير القانوني والإعلامي للملفات المقدمة للجهات الدولية.
- غياب استراتيجية إعلامية موحدة تضمن إيصال الرواية الفلسطينية بفعالية، ما جعل المؤسسات الدولية والإعلام الغربي يعتمدون على مصادر أخرى، بعضها غير موثوق أو منحاز.
- تأخر أو ضعف المبادرات القانونية المقدمة للمحاكم الدولية، ما قلل من فاعلية الجهود المبذولة لملاحقة جرائم الحرب.
- نقص الشفافية والمساءلة في توزيع المساعدات
- لم تكن هناك آليات شفافة وواضحة للإبلاغ عن توزيع المساعدات، مما أثار الشكوك حول سوء الإدارة أو سوء توزيع الموارد.
- غياب رقابة فعالة على بعض المؤسسات أدى إلى حالات من عدم العدالة في توزيع المساعدات، حيث حُرمت بعض الفئات الأكثر احتياجًا منها.
- تأثر بعض المؤسسات بالانتماءات السياسية، ما جعل توزيع المساعدات غير عادل أحيانًا، وفقًا للولاءات التنظيمية.
- ضعف الاستجابة للحاجات النفسية والاجتماعية
- لم تولِ العديد من المؤسسات اهتمامًا كافيًا للآثار النفسية للحرب، حيث كان التركيز الأكبر على الجوانب الإغاثية المادية.
- ضعف برامج الدعم النفسي الموجهة للأطفال والنساء، رغم أنهم الفئات الأكثر تضررًا من الحرب.
- نقص الكوادر المتخصصة في تقديم الدعم النفسي والاجتماعي، ما أدى إلى تدخل غير مهني أحيانًا في بعض الحالات الحرجة.
- الاعتماد المفرط على التمويل الخارجي وتأثيراته
- تأثرت استجابة بعض المؤسسات بشروط التمويل الخارجي، مما حدّ من قدرتها على تبني مواقف مستقلة أو تنفيذ برامج فعالة في الوقت المناسب.
- بعض المؤسسات ركزت على إعداد تقارير للجهات المانحة أكثر من اهتمامها بالاستجابة الفعلية للأزمة.
- تأخر وصول بعض التمويلات أدى إلى تقليص القدرة على توفير الإغاثة العاجلة، مما أثّر على آلاف المتضررين.
خلاصة
تُظهر الحرب على غزة أن المجتمع المدني الفلسطيني ليس مجرد فاعل إنساني، بل هو درع الحماية الأول للمجتمع، ورغم الاستهداف الممنهج، يستمر في تقديم المساعدات، وتوثيق الانتهاكات، والدفاع عن حقوق الإنسان.
وإن استمرار هذه المنظمات بحاجة إلى دعم دولي متكامل يشمل التمويل، الحماية القانونية، والدعم الإعلامي، لضمان بقائها فاعلة في مواجهة التحديات.
ورغم الجهود التي بذلتها مؤسسات المجتمع المدني خلال الحرب إلا أن هناك نقاط ضعف كبيرة تحتاج إلى معالجة لضمان استجابة أكثر كفاءة في المستقبل. فالحروب والأزمات تتطلب ديناميكية عالية، وخططًا استباقية، وتعاونًا حقيقيًا بين مختلف الجهات الفاعلة، وهو ما يجب العمل عليه بشكل جاد لضمان دور أكثر فاعلية في الأزمات القادمة.
غزة ليست مجرد ساحة حرب، بل ميدانٌ للصمود الإنساني، والمجتمع المدني هو ركيزتها الأساسية، التي تستحق كل أشكال الدعم والحماية لضمان استمراريتها.
توصيات المركز
- إنشاء صناديق دعم مستقلة لضمان استمرارية عمل المنظمات بعيدًا عن الضغوط السياسية.
- المطالبة بتوفير حماية قانونية للموظفين والعاملين في المجال الإغاثي، وتفعيل آليات دولية لمساءلة الاحتلال عن استهدافهم.
- تعزيز التنسيق بين المؤسسات المختلفة من خلال تشكيل لجان أزمة مشتركة تعمل على توزيع الأدوار بفعالية.
- إطلاق منصات شفافة لتوثيق المساعدات تتيح للجمهور متابعة توزيع الدعم لضمان العدالة في التوزيع.
- إعادة النظر في أولويات التمويل لضمان عدم الارتهان الكامل لشروط الجهات المانحة، والبحث عن مصادر تمويل محلية ومستدامة.
- تطوير برامج دعم نفسي أكثر فاعلية تستهدف الفئات الأكثر تضررًا، مع الاستفادة من تجارب دول أخرى في التعامل مع الأزمات والحروب.
- استثمار وسائل التواصل الاجتماعي لنشر جرائم الاحتلال بحق المؤسسات المدنية.
- إنتاج محتوى بصري يعكس معاناة المدنيين ودور منظمات المجتمع المدني، واستخدام تقنيات الواقع الافتراضي لنقل صورة ثلاثية الأبعاد عن الدمار في غزة.
- تنظيم حملات ضغط لمطالبة المجتمع الدولي بحماية المؤسسات المدنية الفلسطينية.