دور الإعلام خلال الحرب على غزة:

مركز الدراسات السياسية والتنموية
مقدمة:
يمكن تعريف الإعلام بأنه نقل المعلومات والأخبار إلى جمهور واسع بهدف إقناع هذا الجمهور وتشكيل وعيه في قضية معينة، وتشمل وسائل الإعلام مجموعة من الوسائل التقليدية مثل الفضائيات والإذاعات والصحف والكتب، ووسائل أخرى تنتمي إلى الإعلام الجديد وتتسم بالتفاعل والمشاركة مثل مواقع التواصل الاجتماعي: فيسبوك، تويتر، انستجرام، يوتيوب، تيك توك ، مجموعات الواتس أب وتليجرام، وغيرها.
يعد الإعلام سلاحاً رئيساً خلال الحروب لا يقل أهمية عن الأسلحة المادية التي تستعملها الجيوش، فالسلوك الإنساني هو ثمرة التصور الداخلي، والتصور يتشكل تبعا للوعي والمعلومات والقصص التي يتلقاها العقل، لذلك فإن الإعلام الفاعل يساهم في تشكيل عقول ونفوس الجماهير من خلال مشاركة الحقائق والقصص معهم بالمتابعة والتراكم، ومع تراكم هذه المعلومات يتشكل الوعي والرأي السياسي للجمهور وهو ما يثمر فعلاً سياسيا وجماهيريا يخدم القضية المقصودة.
ومثال أهمية الإعلام أن ارتكاب مذابح تطهير عرقي في بقعة جغرافية مغلقة لن يؤثر على حركة العالم ونشاطه لأن الناس لا يتفاعلون مع ما لا يعلمون، لكن تواتر الأخبار والقصص من تلك البقعة وصياغة هذه المواد الإعلامية بطريقة مقنعة تعتمد على الحقائق والقصص الإنسانية المؤثرة سيثير الغضب في نفوس المتلقين، وتتناسب قوة تفاعلهم مع تلك المذابح مع قوة تدفق المواد الإعلامية ونجاحها في الوصول إلى شرائح أوسع.
ولأن عوامل التشتت والإلهاء كبيرة في حياة المجتمعات والشعوب، فلا بد من مراعاة عامل استمرار التدفق والمتابعة والتكرار، فكلما قوي تدفق المحتوى الإعلامي المؤثر فإن ذلك يدفع إلى توليد حركة أوسع للتضامن والبحث في الوسائل الممكنة للمناصرة .
وكما أن الأطراف ذات القضايا العادلة يمكنها حشد المناصرة لقضاياها من خلال النشاط الإعلامي، فإن الأطراف المعتدية مثل القوى الاستعمارية والأنظمة الاستبدادية يمكنها أيضاً استعمال الإعلام في نيل غطاء لممارساتها وشرعية لسياساتها العدوانية، وذلك من خلال نشاط إعلامي يعتمد على تشويه الحقائق ومشاركة أنصافها مع الجمهور، ونسج روايات مختلقة والتركيز على أحداث فردية مقتطعة من السياق العام لتشتيت الانتباه عن القضايا الرئيسة.
وبذلك فإن نجاح الإعلام لا يعتمد على الحق والعدالة، بل يعتمد على النشاط والجهد المتراكم وفهم أساليب التأثير على القلوب، والقدرة على الوصول إلى مساحات أوسع وشرائح أكبر من المجتمعات البشرية .
وقد يستخدم الإعلام في خلق إطار تبريري لتسويغ جرائم لا يتقبلها الناس عادة مثل القصف والتدمير، لكن حين يتم تقديمها من خلال إطار تبريري فإن معارضة الجمهور تضعف ويصير أكثر تقبلا لفهمها.
وتبحث هذه الورقة دور الإعلام بشقيه التقليدي والرقمي في حرب الإبادة التي يشنها الكيان الإسرائيلي منذ نحو أربعة عشر شهراً على قطاع غزة، ولماذا تبدو نتائج الإعلام متواضعة ولم تنجح في لجم العدو وإجباره على إيقاف الإبادة.
الرواية الإعلامية:
الرواية أو السردية narrative هي الإطار الكلي، أو المنظور الشامل الذي توضع الحقائق الجزئية والأخبار المستجدة في سياقه، ويحكم هذا السياق تلقي وعي الجمهور للحقائق الجزئية، لذلك يختلف تفاعل فريقين مع نفس الخبر لأن كل واحد منهما يفهم الخبر في سياق رواية مختلفة.
مثلاً قد يكون الخبر:
"مقتل عشرات المقاتلين الفلسطينيين في غزة".
فالجمهور العربي يتفاعل عادة مع مثل هذا الخبر بالحزن، لأنه يعلم أن هؤلاء المقاتلين يدافعون عن قضية عادلة ، وأنهم يضحون بأنفسهم وراحتهم في سبيل حرية شعبهم وكرامته.
نفس الخبر سيتلقاه المتأثرون بالدعاية الصهيونية بشعور الفرح لأن وعيهم قد تشكل بأن هؤلاء المقاتلين إرهابيون كارهون للحياة ، يسعون إلى قتل اليهود.
هذه المقارنة تبين أن الأخبار الجزئية وحدها لا تكفي دون مراعاة السياق الشامل الذي يمنح دلالة لتلك الأخبار.
لذلك بالإضافة إلى مهمة نقل الأخبار المستجدة والتفاصيل اليومية فإن الإعلام الناجح يراعي التذكير المستمر بالسياق الكلي للأحداث.
في الحالة الفلسطينية من الضروري ربط الأحداث المستجدة بالجذور مثل أن فلسطين محتلة وشعبها واقع تحت الاحتلال الاستعماري ويتعرض التهجير والمجازر والعدوان والإذلال المستمر الذي تمارسه قوة استعمارية منذ أكثر من سبعة عقود ونصف.
هل يهتم الكيان الإسرائيلي بالإعلام وتتأثر به؟
الكيان الإسرائيلي قام في الأساس على رواية (سردية) ، وهذه حالة خاصة يتفرد بها الكيان عن الدول العريقة مثل مصر والعراق والهند والصين التي نشأت قبل آلاف السنين وفق شروط طبيعية من الجغرافيا والاجتماع البشري.
أما النظام الاستعماري الصهيوني فقد استفاد من مظلمة المحرقة في ألمانيا ومثلت هذه المحرقة وقوداً دعائيا استجلب بها الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي لإنشاء دولته، فقد استغل المحرقة في إقناع العالم بأن بقاء اليهود دون وطن قومي خاص بهم يمثل خطراً وجوديا عليهم وأن إنشاء هذا الوطن في فلسطين هو ضرورة أخلاقية لحماية اليهود من الإبادة.
ولأن الكيان الإسرائيلي يعلم جيداً أهمية الرواية في منحه الشرعية في وسط معاد له وغريب عنه، فإنه حريص على إبقاء هذه الرواية حية، ولذلك فإنه لا يزال بعد حوالي ثمانين عاماً من المحرقة يقيم المؤتمرات والمتاحف التي تذكر الأجيال الجديدة بها وذلك مخافة أن تنقطع أسباب الشرعية عنه.
هذا الظرف الذي شكل ولادة النظام الاستعماري الصهيوني يجعله حساسا تجاه الرواية الإعلامية، لذلك تنفق الدولة أموالاً طائلة لتذكير العالم بمظلومية اليهود من جهة، ولتجنب أي مقارنات بين المظلومية التي تعرضوا لها وبين ممارسات هذه الدولة ضد الشعب الفلسطيني.
وهناك سبب آخر يقوي أهمية الإعلام في رؤية الكيان الإسرائيلي، وهو أن هذه "الدولة" تستمد قوتها الاقتصادية والسياسية من شبكة العلاقات والاستثمارات حول العالم، لذلك تمثل المقاطعة خطراً استراتيجياً على هذه الدولة، فهي تخشى من العزلة وانقطاع المدد، لذلك تلاحق نشطاء المقاطعة حول العالم بكل الوسائل الممكنة قضائيا وإعلاميا وسياسياً.
والكيان الإسرائيلي مهتم بصورته حول العالم لأنه يستثمر في صورة المظلومية من جهة والانتماء إلى الدول المتحضرة الديمقراطية المتقدمة من جهة أخرى.
تغطية الإعلام المؤيد للصهيونية خلال حرب الإبادة:
تغطية الأيام الأولى للحرب:
منذ الساعات الأولى لهجوم السابع من أكتوبر ركزت الآلة الدعائية الصهيونية على تصوير هذا الهجوم كما لو أنه بداية القصة وأنه اعتداء همجي على الحضارة، وأنه مذبحة تهدف إلى إبادة اليهود، وحرصت على قطعه عن أي سياق واعتبرت أن التذكير بأي حدث سابق تبرير لهذا الهجوم، واعتمد تسويق الهجوم على إظهار ما أسمته آلتها الإعلامية والدعائية "وحشيته وفظاعته"، وتضخيم تفاصيل غالباً ما كانت كاذبة ومختلقة، مثل تقطيع الرضع واغتصاب النساء.
واعتمد الكيان الإسرائيلي على أسلوب التكرار والتهويل لتكريس روايته حول فظاعة هجوم السابع من أكتوبر، وأن فظاعة هذا الهجوم ووحشيته لا تحتمل المناقشة.
وحرص الإعلام الصهيوني وأنصاره حول العالم على حرمان الرواية الفلسطينية من وضع هجوم السابع من أكتوبر في سياقه التاريخي، فإذا تطرق المتحدث الفلسطيني إلى حصار غزة أو معاناة الأسرى أو بدء التطهير العرقي منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً فإن المتبنين للدعاية الصهيونية كانوا يقاطعونه سريعا بطريقة الحشر في الزاوية: هل يعني هذا تبرير هجوم ٧ أكتوبر!
كما حرص الكيان الإسرائيلي على استدعاء المقارنات التي تعزز هول ما جرى في ٧ أكتوبر، فوصفه بأنه أسوأ حدث يتعرض له اليهود منذ المحرقة النازية، كما وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن الهجوم بأنه أسوأ من هجوم ١١ سبتمبر الملتصق في ذاكرة الأمريكيين والعالم بخمسة عشر مرة.
ومن الملاحظ على غير العادة أن وسائل الإعلام الإسرائيلية في الساعات والأيام الأولى للهجوم سمحت بنشر أخبار ارتفاع أعداد القتلى الإسرائيليين بصورة دراماتيكية، وفي كل مرة كان يرتفع العدد بـزيادة مائة قتيل دفعة واحدة (٩٠٠، ١٠٠٠,١١٠٠، ١٢٠٠، …)
هذا الارتفاع الدراماتيكي في أعداد القتلى كان من الواضح أنه يهدف إلى تكريس وحشية الهجوم وكارثيته في الرأي العام العالمي تمهيداً لجرائم الكيان الإسرائيلي ضد أهل غزة في الأيام والأسابيع القادمة.
كما وظف الكيان مصطلحات "البربرية والحضارة" ، "قوى الظلام والنور" في شيطنة العدو الفلسطيني وتجريده من إنسانيته تبريرا لقتله، وقد كان أبرز التصريحات في هذا الشأن تصريح وزير الجيش يوآف غالانت في الأيام الأولى الذي وصف الفلسطينيين فيه بأنهم "وحوش بشرية ".
مثل هذه التوصيفات تتضمن رسائل نفسية ضمنية باستحلال قتل الفلسطينيين وإبادتهم، لأن الناس حول العالم لن يتعاطفوا مع صورة البربري أو قوة الظلام أو الحيوان البشري حين يقتل ويباد.
تغطية ما بعد اشتداد الهجوم الصهيوني على غزة:
ظل محور اهتمام الإعلام الصهيوني في الأيام والأسابيع الأولى هو هجوم ٧ أكتوبر، وأدى هذا التركيز إلى إسقاط أي اهتمام بالمجازر التي يرتكبها سلاح الطيران الإسرائيلي في غزة والتي نتج عنها قتل آلاف المدنيين في الأيام الأولى للحرب، لكن لما زادت وتيرة القتل في قطاع غزة، وأظهرت وسائل الإعلام أن معظم الضحايا هم من غير المقاتلين، وأن الغارات الإسرائيلية لا تفرق بين مقاتل وطفل وامرأة ورجل، لم يعد ممكناً استمرار التجاهل الكامل لهذه المجازر، ومن أجل تبرير هذه الحرب الإبادية لجأت الآلة الدعائية الصهيونية ( نقصد الصهيونية وأنصارها في الصحافة الغربية) إلى مجموعة من الخطوط العامة في التغطية الإعلامية، من بينها:
- استمرار التركيز على هجوم السابع من أكتوبر والحرص على بقائه حيا قوياً في ذاكرة الإعلام، حتى تبدو بالمقارنة معه كل الأحداث الأخرى والمجازر الفظيعة تفصيلاً ثانوياً، أو رد فعل مبرر من قبل الكيان الإسرائيلي الذي يتعرض لهجوم يهدد وجوده.
- التركيز على وجود الأسرى الإسرائيليين في غزة (تسميتهم مختطفين لنزع الشرعية الأخلاقية عن فعل المقاومة باحتجازهم) واعتبار استمرار بقائهم في غزة مبرراً لاستمرار الانتقام الإسرائيلي، وتعكس قضية التعامل مع هؤلاء الأسرى الموروث العميق من العنصرية الغربية التي تتعصب للعرق الأبيض وتراه أرفع شأنا من بقية البشر، إذ تجاهلت هذه التغطية تماماً آلاف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال قبل الحرب، وآلاف آخرون من الأسرى خلال الحرب، وانتهاك كل الحقوق الإنسانية في التعامل معهم.
- التركيز على تكرار قصص معينة تهدف إلى شيطنة الفلسطينيين وتعزيز صورة التوحش والبربرية فيهم مثل ادعاء اغتصاب النساء وذبح الرضع، ورغم أن هذه القصص لم تثبت، إلا أن الآلة الإعلامية الصهيونية تعاملت معها بأنها ركن رئيس من أركان تسويق هجوم ٧ أكتوبر ، وكالعادة فإن الكيان الإسرائيلي يؤمن أن التكرار يجعل الكذب كما لو أنه حقيقة لا تقبل المناقشة.
- التركيز على مصيرية هذه الحرب لوجود الكيان الإسرائيلي ووصفها بأنها حرب الاستقلال الثانية أو حرب القيامة، وأن الكيان الإسرائيلي يحب أن يواصل هذه الحرب لينتصر على القوى التي تسعى إلى محوه من الوجود.
- إظهار شعور المظلومية في مواجهة كل العالم، ووصم كل موقف سياسي مناصر للحقوق الفلسطينية أو منتقد للمجازر الصهيونية بأنه موقف معادي للسامية، وشمول هذا الخطاب الصدامي مع العالم لمؤسسات وحكومات وشخصيات وازنة مثل الأمين العام للأمم المتحدة، محكمة العدل الدولية، محكمة الجنايات، الحكومات الأوروبية التي اعترفت بدولة فلسطين، كل هذه المواقف المناصرة لفلسطين تعامل معها الكيان الإسرائيلي بالعناد والوصمة واستخدمها لاستثارة شعور المظلومية وتقوية حالة المسكنة التي يظهر بها للعالم .
- تمييع المجازر التي ارتكبتها آلة الحرب الإسرائيلية في غزة بعدة طرق منها:
-استخدام صيغة المبني للمجهول في تغطية هذه المجازر فيقال مثلاً :" مقتل مائة فلسطيني في غزة في ظل استمرار الحرب بين اسرائيل وحماس…"
مثل هذه الصيغة تغيب الفاعل حتى يبقى باب التكهن حول هويته مفتوحاً، وترسل مثل هذه الصيغة المعتادة في وسائل الإعلام الغربية الكبرى إيحاء بأن حماس قد تكون هي من قتلتهم.
- التقليل من مصداقية أعداد الضحايا الفلسطينيين عبر نسبتها إلى مصادر فلسطينية وأحيانا مصادر من غزة، والتنويه أحياناً إلى أن هذه المصادر تسيطر عليها حركة حماس، فيقال مثلاً: " حسب وزارة الصحة التي تسيطر عليها حركة حماس فقد قتل …. "
- تحميل حركة حماس مسئولية المجازر في غزة من خلال اتهامها باستغلال الأماكن الإنسانية في الاختباء أو ما يسميه الإعلام الصهيوني "أماكن سيطرة وتحكم" في المدارس والمستشفيات، واتخاذ ذلك مبررا لاستهداف هذه الأماكن وهو ما يوقع في كل مرة عشرات الضحايا من المدنيين.
- محاولة تبرئة جيش الاحتلال الإسرائيلي من خلال أسلوب" إنذار السكان بالإخلاء " والادعاء بأن هذا الانذار لحمايتهم، وتجاهل أن سياسة الإخلاء حين تستهدف معظم أهالي قطاع غزة وتستمر أكثر من عام ثم تستهدف بيوتهم بعد تركها، هي في ذاتها عقاب جماعي وليس مجرد إجراء حماية للسكان.
تغطية الإعلام المناصر لفلسطين لحرب الإبادة على غزة :
حظيت الحرب على غزة بتغطية إعلامية مكثفة منذ الساعات الأولى لها من قبل وسائل الإعلام المناصرة لفلسطين، وتمثلت هذه التغطية في الجوانب الآتية:
- منذ الساعات الأولى لبدء الحرب قطعت القنوات التلفزيونية العربية مثل قنوات الجزيرة والتلفزيون العربي والغد، برامجها وخصصت تغطية مفتوحة على مدار ٢٤ ساعة في اليوم لتطورات الحرب في غزة .
- خصصت المواقع والصحف العالمية المناصرة لفلسطين المساحات الأكبر من اهتمامها لحرب غزة، وتمثلت تغطيتها بنشر الأخبار والتحليلات ومقالات الرأي ومقاطع الفيديو حول الحرب على غزة .
- اتسمت هذه الحرب بحضور كبير لوسائل التواصل الاجتماعي، واعتمدت التغطية على "كاميرا الهاتف المنقول" إذ وثق السكان الفلسطينيون مشاهد الجرائم وقصص المأساة وتم ترجمتها وتداولها ووصولها إلى عشرات ملايين المتصفحين حول العالم .
- وفي ضوء العوائق التي فرضها واقع القصف الإسرائيلي المكثف وعجز طواقم الصحفيين عن الوصول إلى كثير من الأماكن حلت كاميرات الهاتف المحمول محل الصحافة التقليدية، حتى إن الفضائيات اعتمدت في جزء كبير من التغطية الإخبارية على ما يصلها من النشطاء من مواد موثقة بالهواتف المحمولة.
الخطوط العامة لتغطية الإعلام المناصر لفلسطين:
ركز الإعلام المناصر لفلسطين بجانبيه التقليدي والجديد على مجموعة من الخطوط العامة في التفاعل مع حرب ٢٠٢٣- ٢٠٢٤ ومن أهم هذه الخطوط العامة:
- التركيز على المجازر الجماعية والأعداد المهولة من الضحايا من الأطفال والنساء والرجال المدنيين، وما تمثله تلك المجازر من انتهاكات للقوانين والمبادئ الدولية.
- التركيز على مظاهر المعاناة الإنسانية التي سببتها الحرب مثل الجوع والفقر والنزوح والسكن في الخيام والبرد والأمطار وفقدان التعليم.
- في المقابل التركيز على قصص البطولة وقوة إرادة المقاتل الفلسطيني وإصراره على الانتصار رغم ضعف الإمكانيات وقراءة معنى الفخر في عمليات المقاومة.
- التركيز على التفاعل الشعبي حول العالم مع هذه الحرب والتظاهرات والإضرابات.
- التركيز على الحراك السياسي والدبلوماسي لإنهاء الحرب.
الملامح العامة للرواية الفلسطينية في مواجهة الرواية الصهيونية:
تصدى النشطاء المناصرون للحق الفلسطيني لمواجهة ادعاءات الآلة الدعائية الصهيونية وتقديم إجابات لإبطال تلك الادعاءات، وظهر هذا النشاط في الإعلام التقليدي مثل الفضائيات والمواقع الإلكترونية والصحف، وظهر كذلك في حسابات مواقع التواصل الاجتماعي في فيسبوك، تويتر، انستجرام، يوتيوب، تيك توك، للنشطاء والمشاهير وبعض هذه الحسابات يتابعها الملايين حول العالم.
وقد تمثلت الملامح العامة لرواية الإعلام المناصر لفلسطين بجملة من العناصر:
- عملية السابع من أكتوبر تأتي في سياق طبيعي لمقاومة شعب واقع تحت الإبادة والاحتلال والحصار وله أسرى في السجون، والقضية بدأت منذ احتلال فلسطين وتهجير سكانها عام ١٩٤٨، ولم تبدأ صباح ٧ أكتوبر ٢٠٢٣.
- هناك مبالغات إسرائيلية واضحة، والتقارير والشهود يفيدون أن الجيش الإسرائيلي قتل الإسرائيليين صباح ٧ أكتوبر وأطلق النار والصواريخ عشوائيا.
- استهداف المستشفيات والمدارس وتدمير الأحياء فوق رؤوس ساكنيها ومحو عائلات كاملة من السجل المدني، وحقيقة أن الغالبية العظمى من الضحايا هم مدنيون، وتقويض البنية التحتية في قطاع غزة بالكامل وتحويله إلى مكان غير صالح للحياة، هذه كلها جرائم إبادة جماعية غير مبررة مطلقا ولا تتناسب مع الرد على هجوم ٧ أكتوبر.
- القصص الفردية التي تظهر بشاعة الجرائم الصهيونية والانتهاكات الفظيعة، مثل قصة الطفلة هند رجب التي حاصرتها الدبابات وسط جثث عائلتها وبقيت وحيدة حتى استشهدت، وقصة الأمهات اللاتي فقدن كل أطفالهن، وقصة شهداء الطحين الذين قصفهم جيش الاحتلال وهم ينتظرون الإغاثة، ومئات القصص الأخرى، هذه القصص تبرز العمق الإنساني للمعاناة.
- الكيان الإسرائيلي تجاوزت مجرد رد الفعل على هجوم ٧ أكتوبر، وهو ينفذ مخططا استراتيجيا لتهجير السكان الفلسطينيين، وهذا هو مسعاها القديم منذ نشأتها.
- الاستهداف الإسرائيلي في غزة شمل الأكاديميين والأطباء والصحفيين والمثقفين ونشطاء الرأي العام، وشمل كذلك تدمير المساجد والجامعات والمدارس والمعالم التاريخية، وهو ما يؤكد أنها حرب اجتثاث للوجود الفلسطيني وتقويض للمجتمع وليست حرباً ضد مجموعة من المقاتلين أو الفصائل المسلحة.
لماذا لم ينجح الإعلام المناصر لفلسطين في إيقاف الإبادة:
رغم الجهود الكبيرة للنشطاء المناصرين لفلسطين ووسائل الإعلام المؤيدة للحق الفلسطيني، ورغم وضوح وقوة الدلائل التي تدين جرائم الحرب الصهيونية، ورغم كثافة المحتوى الإعلامي الصادر من غزة إلى العالم، ورغم القصص المروعة التي رآها العالم، إلا أن كل ذلك لم ينجح في إلجام الكيان الإسرائيلي عن المضي في حرب الإبادة.
ولعل هناك العديد من الأسباب التي أضعفت قدرة الإعلام المناصر لفلسطين على المساهمة في إيقاف الإبادة:
- حتى يكون الإعلام مؤثراً فإنه يجب أن يعمل ضمن باقة متكاملة من الأدوات السياسية والاقتصادية والشعبية، وهو ما لم يتوفر في حالة الإعلام المناصر لفلسطين في هذه الإبادة ، إذ قررت شبكة المصالح الاستعمارية الدولية الانحياز إلى الكيان الإسرائيلي وتقديم كل ألوان الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي لها، وكذلك اتسمت مواقف الأنظمة الإقليمية بالتخاذل، وقد أدى هذا التواطؤ السياسي مع الكيان الإسرائيلي في حرب إبادته إلى انحصار مساحة تأثير الإعلام في تظاهرات وأنشطة شعبية في عدد من العواصم والجامعات العالمية دون القدرة على إحداث اختراق أكبر من هذا وتشكيل مواقف سياسية تمثل ضغطاً حقيقياً يؤدي إلى إيقاف الإبادة.
- بينما قدم الإعلام المناصر لفلسطين دعماً معنوياً للضحايا وحسب، وشارك قصصاً إنسانية مؤثرة، فإن الكيان الإسرائيلي في المقابل تلق دعما هائلاً غير مشروط عسكريا واقتصاديا وسياسياً بالإضافة إلى الدعم المعنوي الذي تلقاه من وسائل الإعلام الداعمة للصهيونية.
- تعرض النشطاء المناصرون لفلسطين حول العالم، وفي الدول الغربية إلى التضييق والمحاربة، وتمثلت المحاربة في أدوات الاعتقال والفصل من الجامعات والملاحقة القضائية والاتهام بمعاداة السامية.
- تعرض المحتوى المناصر لفلسطين إلى حملات تضييق وحجب من قبل الشركات الأمريكية التي تربطها علاقات بالكيان الإسرائيلي مثل فيسبوك وانستجرام وتويتر بينما حظيت صفحات الناطقين باسم الجيش الإسرائيلي الذي يمارس الإبادة والجرائم بدعم من هذه المواقع مثل صفحة الناطق باسم الجيش والمنسق التي استعملت منبراً في تنفيذ جرائم التهجير القسري للسكان من مدنهم وأحيائهم.
- اتسم الإعلام المناصر لفلسطين بالتشتت وبعثرة الجهود، وغياب جسم تنسيقي بين الإعلاميين ووسائل الإعلام وكذلك غياب رؤية تراكمية، ومع القوة الأخلاقية التي تحظى بها القضية الفلسطينية إلا أن غياب التنسيق والتراكم أضعف من تأثير وصول الصوت الفلسطيني إلى ساحات جديدة.
- الامتداد الزمني لهذه الحرب خلق حالة من التعود والتأقلم من قبل الجمهور مع أخبار الجرائم الصهيونية، وهذا التعود يحدث عادة في الحروب طويلة الأمد، إذ يتوقف كثير من الناس بعد عدة أسابيع أو عدة شهور عن المتابعة وينصرفون إلى مشاغلهم الخاصة، وهذا ما راهن عليه الكيان الإسرائيلي بتعمد إطالة أمد الحرب وهو أن يؤدي ذلك إلى تعود العالم وإضعاف الاهتمام العالمي وانصرافه إلى شئون أخرى.
خلاصة:
تلعب وسائل الإعلام، التقليدية منها والرقمية، دورًا محوريًا في تشكيل الوعي العالمي وتوجيه الرأي العام، خاصة خلال الأزمات والحروب، وفي حالة حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، ظهر الإعلام كساحة معركة موازية، حيث حاول الإعلام الفلسطيني والمناصر له مواجهة آلة الدعاية الصهيونية التي تملك موارد ودعماً سياسياً واقتصادياً كبيراً.
ورغم الجهود الكبيرة التي بذلها الإعلام المناصر لفلسطين في نقل الرواية الحقيقية وكشف جرائم الاحتلال، إلا أن تأثيره ظل محدوداً بسبب عوامل عدة، أبرزها التواطؤ السياسي العالمي مع الاحتلال، ضعف التنسيق الإعلامي، القيود التقنية والسياسية على المحتوى الفلسطيني، ونجاح الدعاية الصهيونية في استغلال السياقات الثقافية والسياسية الغربية.
إن تعزيز أثر الإعلام الفلسطيني يتطلب رؤية استراتيجية تقوم على التكامل بين الجهود الإعلامية والسياسية والشعبية، والاستثمار في تقنيات حديثة، وبناء شراكات مع شخصيات ومؤسسات عالمية مؤثرة. في النهاية، يبقى الإعلام أداة فعّالة للتأثير عندما يُدار بوعي وإبداع، وهو سلاح لا يقل أهمية عن أي سلاح آخر في معركة الحرية والعدالة.
توصيات المركز:
- تقديم رواية متماسكة ومتكاملة والتركيز على الجذور التاريخية للقضية، وربط الأحداث الحالية بالسياق الاستعماري والاحتلال الطويل لفلسطين، والتأكيد أن القضية لم تبدأ في "السابع من أكتوبر".
- إعداد تقارير مصورة تظهر الحياة اليومية تحت الحصار والاحتلال، وإبراز المعاناة الإنسانية عبر قصص شخصية مؤثرة تمس وجدان الجمهور.
- التصدي للادعاءات التي ترتكز عليها الدعاية الصهيونية وتخاطب بها العالم مثل اغتصاب النساء وقتل الرضع، والاستعانة بمصادر الأخبار العبرية أو المنظمات الدولية ذات المصداقية ، وتقارير الوسائل الأجنبية المعروفة لدحض أكاذيب الاحتلال.
- الانتباه إلى أن إطالة زمن الحرب يخلق الملل والتعود في العالم ويصرف الناس إلى شئونهم الخاصة، ولعل من أساليب مواجهة ذلك مراعاة التجدد دائما في الأسلوب والوسائل.
- إظهار أن الممارسات الصهيونية في غزة تجاوزت بكثير مجرد الرد على ٧ أكتوبر وأنها تقويض ممنهج للمجتمع وتدمير شامل للوجود الفلسطيني والاستعانة بالإحصاءات الموثوقة حول طبيعة الاستهدافات ضد المدارس والجامعات والمساجد وتدمير المدن بأكملها.
- التواصل مع الإعلاميين المناصرين لفلسطين حول العالم ودعوتهم إلى خلق جسم تنسيقي موحد يعمل على مراكمة الجهود الإعلامية ويحميها من التفرق والتشتت.
- إنتاج محتوى عالي الجودة من أفلام وثائقية قصيرة وقوية تتناول الجرائم الإسرائيلية بأسلوب مهني يستهدف الإعلام الغربي.
- الاستثمار في الإعلام الرقمي وإطلاق حملات مركزة على المنصات الأكثر تأثيراً (TikTok، Instagram، YouTube) باستخدام محتوى مرئي قصير وجذاب.
- السعي إلى الوصول إلى مساحات تأثير جديدة والتواصل مع النشطاء المؤثرين حول العالم الذين يتابعهم الملايين أو عشرات الملايين والسعي إلى إقناعهم بالجرائم المهولة التي يرتكبها الاحتلال.