بعد شهر من التصعيد: تبدد الضباب
ترجمة خاصة - مركز الدراسات السياسية والتنموية
التصعيد الذي بدأ قبل شهر رمضان أوقع خسائر فادحة في (إسرائيل)، وحققت حماس بالفعل بعض الإنجازات وحسّنت مكانتها. لكن الأحداث التي جرت حتى الآن لم تؤد إلى النتيجة المرجوة للحركة: مظاهرات حاشدة على عدة جبهات، بمشاركة عرب من (إسرائيل) والقدس الشرقية والضفة الغربية. هل تعترف (إسرائيل) بالتحديات الجديدة التي تحاول حماس طرحها؟ وما الذي يمكن عمله الآن حتى لا يتكرر هذا التصعيد في العام المقبل، عندما يتزامن عيد الفصح ورمضان مرة أخرى؟
يعتبر التصعيد في الساحة الإسرائيلية الفلسطينية، المستمر منذ أكثر من شهر، هو نتاج عملية خططت لها ونظمتها حماس منذ عدة أشهر وقبل شهر رمضان، سعت حماس، وكدرس مستفاد من التصعيد الذي حصل العام الماضي، إلى استخدام الأماكن المقدسة في القدس الشرقية لإثارة احتجاجات جماهيرية من شأنها أن تحشد مرة أخرى تضامن الفلسطينيين في كل الساحات في القدس، وفي جميع أنحاء الضفة الغربية، وفي الداخل. ورغم أن الجماهير لم تستجب للدعوة، إلا أن الحركة حقق إنجازات في ثلاثة مجالات: القضية الفلسطينية عادت إلى الأجندة الدولية. معظم الدول العربية، بما فيها تلك التي تطبع علاقاتها مع (إسرائيل)، انتقدت بل ووبخت ممثلي (إسرائيل). كما تم تسليط الضوء على ضعف السلطة الفلسطينية وتراجع حركة فتح. السؤال هو هل من الصواب الاستمرار في التفكير في إجراءات عقابية ضد حماس تستهدف الردع وتحركات تهدف إلى تحسين حياة السكان في قطاع غزة والضفة الغربية – وهي الأفكار التي تضعف السلطة الفلسطينية وتعطي حماس قوة إضافية؟ بالإضافة لذلك، هل عدم وجود رؤية سياسية للتسوية يبرر عدم التفكير بشكل سياسي في سبل وقف التدهور في مكانة السلطة الفلسطينية؟
ليسوا شباب مضطربين ولا تمرد للمراهقين. بدأ التصعيد على الساحة الإسرائيلية الفلسطينية خلال الأسابيع الستة الماضية بعمليتين إرهابيتين في مدينتي بئر السبع والخضيرة، نفذهما مواطنون عرب في (إسرائيل) محسوبون على تنظيم داعش. واستمرت حيث حدث اعتداءين آخرين، في بني براك وتل أبيب، نفذهما إرهابيون من منطقة جنين، وأعقبهما في نهاية شهر رمضان إطلاق نار في مدينة أرييل نفذه إرهابيان من قرية مجاورة. وعملية في يوم الاستقلال في إلعاد. لكن مظاهر التصعيد الرئيسية تكمن في المقاومة الشعبية، وفي الاحتكاك المستمر بين الفلسطينيين والشرطة والجنود. نقاط الاحتكاك متعددة، الأماكن المقدسة في القدس الشرقية ومحيطها، جنين، والحرم الإبراهيمي في الخليل. وأماكن أخرى في الضفة الغربية. التصعيد هو نتاج مخطط لحملة تقودها حماس بالتعاون مع الجهاد الإسلامي الفلسطيني والجبهة الشعبية. الشباب لهم دور في التصعيد لكنهم لا يقوده، ويجد الشباب بشكل أساسي في دعوات حماس وفي أجواء التصعيد مناخا مناسبا لتنفيس الضغط المتراكم منذ فترة طويلة. بعبارة أخرى، لا ينبغي أن نستنتج من مشاركة جيل الشباب في التصعيد أن هناك تفاهماً بينه وبين الحركات الإسلامية فيما يتعلق بالتعامل مع (إسرائيل) وحل النزاع.
بدأت حماس في وقت مبكر من يناير من هذا العام في إرساء الأسس للتصعيد في رمضان. وحذرت الحركة من الاعتداء الإسرائيلي على المسجد الأقصى واقتحامه، وتوسيع حرية العبادة لليهود، ودخول اليهود إلى الحرم القدسي، وتكرار ترتيبات الحرم الإبراهيمي في المسجد الأقصى، فبعد مذبحة باروخ غولدشتاين 1994، تم إنشاء نظام جديد بجدول زمني منفصل لصلاة اليهود والمسلمين، وهو في نظر الفلسطينيين منحاز لليهود.
تفتقر مزاعم حماس إلى أساس واقعي، لكن هدف المنظمة كان بث الروح المعنوية في الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية والشتات الفلسطيني و(إسرائيل) قبل وأثناء التصعيد في رمضان. كانت سياسة (إسرائيل)، منذ تشكيل الحكومة الحالية في مايو 2021، هي تجنب أي إجراء مثير للجدل يمكن أن يقوض التحالف الحكومي. لذلك، لم تتخذ الحكومة أي خطوات لتغيير الوضع الراهن القائم في القدس الشرقية وحول الأماكن المقدسة خلال عملية حارس الأسوار -الحرب بين (إسرائيل) وحماس في مايو 2021، والتي بدأت في القدس وتركزت في قطاع غزة.
في الحقيقة، يمكن القول أن التصعيد الحالي هو الفصل الثاني في المواجهة نفسها التي اندلعت بعد إلغاء انتخابات المجلس التشريعي من قبل رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن. وحرم إلغاء الانتخابات حماس من إمكانية الفوز بالانتخابات وتحقيق آمالها في أن تكون جزءً من القيادة التي تمثل القضية الفلسطينية وتقودها، ووضع حد لتفرد حركة فتح في القيادة، وعلى رأسها أبو مازن. تم تطوير هذه الاستراتيجية خلال إدارة ترامب، التي قوبلت محاولتها لفرض "صفقة القرن" على الفلسطينيين بمعارضة فلسطينية واسعة وتقارب بين الفصائل الفلسطينية المتناحرة -الأمر الذي جعل المصالحة الوطنية الفلسطينية لبعض الوقت قابلة للتطبيق.
أعاد إلغاء الانتخابات حماس إلى دائرة المواجهة، ولكن بشكل مختلف عن المواجهات التي دارت حتى عام 2014. حتى ذلك الحين، كانت مطالب حماس تركز على رفع الحصار عن قطاع غزة، وفتح المعابر من وإلى القطاع، وتحسين حياة سكانها. في أعقاب الحرب عام 2014، وجدت حماس صعوبة في تبرير استمرار المقاومة المسلحة ل(إسرائيل) أمام الجمهور في غزة وبدأت في تبني أساليب المقاومة الشعبية، والتي تجلت في احتجاجات شعبية واسعة النطاق على طول الحدود مع (إسرائيل). قطاع. وأوضح أعضاء بارزون في الحركة أن التحول خطوة ضرورية بسبب تغير الظروف، بما في ذلك التعب العام لدى السكان في قطاع غزة، فضلاً عن الافتقار إلى الدعم العربي وآفاق المصالحة الفلسطينية الداخلية. كررت حماس عشية التصعيد الحالي عدة مرات بأن قطاع غزة ساهم بشكل كبير في مقاومة (إسرائيل) وأن الوقت قد حان لتقوم الضفة الغربية بدورها. كما تم التأكيد على أن القطاع لن يقف جانباَ وسينضم إلى المواجهة، حسب تطورات وأبعاد التصعيد.
لم يكن الهدف الذي وضعته حماس لنفسها فقط مقاومة الاحتلال، ولكن أيضًا، وربما الأهم من ذلك، استغلال ضعف السلطة الفلسطينية والفشل الكامل للاستراتيجية السياسية في مواجهة "صفقة الـقرن. وقد أدى ذلك إلى توحيد الجمهور الفلسطيني حول أوسع قاسم مشترك ممكن، وتعميق عداءه للسلطة الفلسطينية، والسعي لتحقيق التغيير الذي فشلت في تحقيقه عبر الانتخابات.
تمكنت حماس من ربط قطاع غزة والقدس والمواطنين العرب في (إسرائيل) عبر المسجد الأقصى والأماكن المقدسة في القدس الشرقية في مايو 2021، وبث الأمل بين الفلسطينيين الذين يأملون في التغيير. بعد عام واحد، ومع اقتراب شهر رمضان، سعت حماس لخلق حدث يحقق نتائج مماثلة لما حدث العام الماضي. لكن العفوية التي ميزت التعبئة الفلسطينية متعددة الجبهات في عام 2021 كانت مفقودة. الهجمات التي وقعت في بئر السبع والخضيرة، لم تثر موجات من التناغم الجماعي مع الإرهابيين من جانب المواطنين الفلسطينيين في (إسرائيل). وحالت الإدانة الواضحة وواسعة النطاق التي سُمعت من جميع مستويات قيادة هذا القطاع، من انفتاح وتوتر هذه الجبهة.
فيما يتعلق بالقدس الشرقية، نجحت حماس في تجنيد العديد من الفلسطينيين من المنطقة ومن الضفة الغربية والمواطنين العرب في (إسرائيل)، الذين وقفوا عشية رمضان أمام العديد من رجال الشرطة المتمركزين هناك للتعامل مع أعمال الشغب المتوقعة. كررت حماس مزاعم مكررة بانتهاك (إسرائيل) للوضع الراهن، والسماح لليهود بالصلاة في الحرم القدسي، بهدف خلق ما يشبه الخطر على الأقصى من (إسرائيل).
نشأت في منطقة جنين، وهي مدينة منفذي هجمات بني براك وتل أبيب، منطقة توتر أخرى. اندلعت اشتباكات بين جنود جيش الدفاع الإسرائيلي ومسلحين محليين، بما فيهم أعضاء في فتح والجهاد الإسلامي وآخرين، تلتها اضطرابات وحالات رشق بالحجارة شارك فيها العديد من السكان المحليين. مرة أخرى، برز مخيم جنين للاجئين على أنه بؤرة للإرهاب، حيث تشكلت تحالفات بين مختلف المنظمات، وحتى بعض المنافسين، مثل فتح والجهاد الإسلامي.
لكن الجماهير في كل من القدس والضفة الغربية لم تنزل إلى الشوارع، على غرار الانتفاضة التي اندلعت في أواخر عام 1987، والتي جذبت اهتمامًا دوليًا وعربيًا، وفي غضون سنوات قليلة انطلقت في عملية سياسية بعيدة المنال.
يمكن للجماهير في الواقع الحالي على الساحة الفلسطينية، أن تشارك في مثل هذه الحملة في واحدة من حالتين: التنسيق بين حماس وفتح، اللتين تمتلكان وحدهما القدرة على خلق توافق، أو هذا ما تدعيه حماس، مع زيادة الاحتكاك ووجود قتلى وجرحى من الشرطة الإسرائيلية، خاصة حول الأماكن المقدسة في القدس الشرقية. لكن التنسيق بين حماس وفتح ليس قابلاً للتطبيق اليوم ولا يوجد إجماع فلسطيني على مواجهة واسعة النطاق مع قوات الأمن الإسرائيلية. علاوة على ذلك، فإن استعدادات الشرطة الإسرائيلية والمؤسسة الأمنية في الوقت المناسب للتعامل مع الاحتكاك دون التسبب في وقوع إصابات كثيرة حالت في الواقع دون تطور المشاركة الجماهيرية، والذي يعتبر أمراَ حيوياَ للغاية بالنسبة لحماس.
فشلت حماس حتى الآن في محاولتها تحقيق هدف التصعيد الرئيسي. لم تتطور جبهات أخرى للمواجهة ولم تتسع المواجهة نفسها. لكن حماس حققت إنجازات في ثلاثة مجالات. عادت القضية الفلسطينية بعد غياب مدو عن قمة النقب في آذار إلى جدول الأعمال الدولي. تعاملت الأمم المتحدة والمجتمع الدولي مع الأحداث، وكثفت معظم الدول العربية انتقاداتها لـ(إسرائيل) بشأن الأماكن المقدسة. وبخ الأردن، الذي يهدده التصعيد في القدس أكثر من الدول العربية الأخرى، ممثل السفارة الإسرائيلية، وعقد اجتماعاً عاجلاً لجامعة الدول العربية ناقش التصعيد وإدانة (إسرائيل). كما أظهرت حماس ضعف السلطة الفلسطينية وتراجع حركة فتح، بما في ذلك مؤشرات التمرد في صفوفها. انتقاد السلطة الفلسطينية لـ(إسرائيل) كان حاداً: اتهمت (إسرائيل) بالتسبب في التصعيد، ورددت السلطة رسائل حماس وصبت الزيت على النار.
انتهى شهر رمضان، لكن الأيام الحساسة تنتظرنا، ومن المحتمل أن تشمل الصورة لاحقاً البعد الشعبي الفلسطيني. ومع ذلك، تشير التقديرات إلى أن حماس خطت خطوة أخرى في طريقها إلى أن ينظر إليها الجمهور على أنها بديل للسلطة الفلسطينية. على الرغم من التمييز بين قطاع غزة والضفة الغربية، والذي يُزعم أنه تجلى في التصعيد الحالي في عدم انضمام غزة إلى التصعيد، إلا أنه من الواضح للجميع ربط حماس لغزة بالضفة من خلال التهديدات والدعم العسكري. وتراجع السلطة الفلسطينية وفتح وأبو مازن واضح في مواجهة صعود حماس كقوة جديدة وجريئة.
هل من الصواب أن تستمر (إسرائيل) في التركيز على الحلول الاقتصادية والبنية التحتية، وأن تستمر في التفكير في إجراءات الردع العقابية ضد حماس؟ هل من الصواب الاستمرار في تجاهل حقيقة أن عدم وجود استراتيجية سياسية لا يؤدي إلا إلى زيادة قوة حماس وتقويض السلطة الفلسطينية؟ لا يعني التفكير السياسي بالضرورة التوصل إلى تسوية وتوقيع اتفاقية، ولكن أولاً وقبل كل شيء الاعتراف بالحاجة إلى الحوار لتوضيح المشكلات وتحديد سبل التوصل إلى اتفاق. إن غياب مثل هذا التفكير هو بمثابة تهرب، وسيتطلب التهرب إلى الأبد انتباه الشخص الذي يختبئ في الظلام.