فهم "إعادة التموضع الكبرى" في الشرق الأوسط
ترجمة خاصة – مركز الدراسات السياسية والتنموية
يبدو الشرق الأوسط وكأنه في حالة مصالحة. يعمل الخصوم والأعداء الإقليميون على إصلاح واستعادة العلاقات. تم حل أزمة الخليج بقمة العلا. بعد ما يقرب من عقد من العداء، انخرطت تركيا والإمارات العربية المتحدة في عملية تقارب سريعة الخطى. هناك تحسن في العلاقات بين الإمارات وإيران. ولا تزال محادثات التطبيع بين القاهرة وأنقرة جارية بينما انتعشت الدبلوماسية بين أنقرة والرياض في الأشهر الأخيرة. بالإضافة إلى ذلك، لم يعد الربيع العربي والإسلام السياسي، وهما خطا صدع رئيسيان للخلاف في العقد الماضي، يحتلان مكانة بارزة في جدول الأعمال الإقليمي.
ومع ذلك، وعلى الرغم من فورة النشاط الدبلوماسي، لا يوجد صراع في المنطقة على وشك الحل. لا تزال منطقة الخليج وليبيا وسوريا واليمن وشرق البحر الأبيض المتوسط والقرن الأفريقي بؤرًا جيوسياسية ساخنة. تثير مثل هذه التطورات المتناقضة سؤالين مترابطين: ما الذي يحدث بالضبط في أنحاء الشرق الأوسط، والأهم من ذلك، ما الذي يدفع لذلك؟
تم تفسير التحركات الدبلوماسية الإقليمية للرغبة في التقارب وتطبيع العلاقات. ومع ذلك، من حيث المصطلحات، فإن كلمة خفض التصعيد هي الأنسب لوصف الوضع لأن إعادة الاصطفاف الجارية ليست نتيجة لتسويات بين القوى الإقليمية. بل هو نتيجة لمراجعة الأطراف الفاعلة لمواقفها الجيوسياسية لأن السياقات الإقليمية والدولية تفضل خفض التصعيد على الصراع. بمعنى، ما نلاحظه هو تجميد مؤقت للصراعات الإقليمية، وليس نتيجة ناجحة لجهود حقيقية في سبيل الحل.
هذا التراجع عن التصعيد مدفوع بمجموعة من العوامل التي غيرت الأولويات الاستراتيجية للقوى الإقليمية، بما في ذلك الانسحاب الأمريكي المترافق مع نهج إدارة بايدن في إدارة النزاعات في الشرق الأوسط، والجمود في مختلف ساحات المنافسة الجيوسياسية، استنفاذ الصراع الأيديولوجي بين المنافسين، والضرورات الاقتصادية الوطنية.
القوى الفاعلة
أولاً: أدى الانسحاب الجزئي للولايات المتحدة من سوريا والعراق، والانسحاب الكامل من أفغانستان، وعدم الاستعداد لتحمل المزيد من المسؤوليات الأمنية، إلى دفع الجهات الفاعلة الإقليمية إلى إعادة التفكير في تكلفة عدم الاستقرار الجيوسياسي. من وجهة نظرهم، لا تقوم الولايات المتحدة بتقليص التزاماتها الأمنية فحسب، بل أصبحت أيضًا شريكًا لا يمكن التنبؤ بما سيفعل. أوضح مثال على ذلك هو عدم انحياز إدارة بايدن لأي طرف في المواجهة بين دول الخليج العربي وإيران، وهو تحول كبير عن سياسة إدارة ترامب التي دعمت بكل إخلاص المعسكر المعادي لإيران. بدلاً من ذلك، تدفع هذه الإدارة لإحياء الاتفاق النووي الموقع في 2015 مع إيران، دون نجاح يذكر. دفعت هذه العوامل اللاعبين الإقليميين إلى التحوط في خياراتهم، وإصلاح العلاقات مع المنافسين، وإقامة علاقات أوثق مع القوى الخارجية الأخرى مثل الصين وروسيا.
ما يعكس استراتيجية التحوط الإقليمية هذه، هو سعي جميع دول المنطقة تقريبًا لتعميق علاقاتها مع بكين وموسكو. حيث زادت الصين بشكل كبير من حصتها ودورها في اقتصاد المنطقة وروسيا في أمن المنطقة. وكما يلوح في الأفق احتمال حدوث منافسة بين القوى العظمى، الولايات المتحدة والصين وروسيا أيضًا، فإن تعميق علاقات دول الشرق الأوسط مع موسكو وبكين سيكون مصدرًا رئيسيًا للتوتر بين هذه الدول وبين الولايات المتحدة الأمريكية.
ثانيًا: كان الجمود هو المحصلة النهائية في العديد من مناطق الصراع. حيث انتهت أزمة الخليج 2017 بلا منتصر بل بخاسرين كثيرين. في سوريا خسرت المعارضة لكن النظام لم ينتصر. وبالمثل، على الرغم من الاضطرابات في شرق البحر الأبيض المتوسط بين تركيا ومجموعة من الدول المتحالفة مع اليونان وقبرص (فرنسا وإسرائيل ومصر والإمارات العربية المتحدة)، لم تتغير خريطة الصراع بأي طريقة ذات فائدة لأي طرف. لم يتمكن الطرفان من الاتفاق على أي شيء سوى إعادة تجميد الخلاف مؤقتًا. وكذلك، انتهت الحملة العسكرية التي شنها خليفة حفتر على مدار عام للسيطرة على طرابلس بدعم من مصر والإمارات بعد أن وافقت تركيا وروسيا على هدنة. هذا الغياب للنصر الواضح يخلق أرضية أكبر للانخراط والتفاوض بين الأطراف المتصارعة وداعميهم الدوليين.
ثالثًا: تشهد المنطقة استنفادًا للصراعات الأيديولوجية، مما قلل في المقابل من أهمية وشدة المعارك الأيديولوجية التي كانت بارزة على مدار العقد الماضي. بعد عقد من انتفاضات الربيع العربي، لا يمكن لأحد أن يدعي انتصاره. في المقابل، فإن قائمة الخاسرين طويلة جدا. فقد عانت قوى الإسلام السياسي من انتكاسات وخسائر، وهي التي كان يُنظر إليها على أنها المنتصرة في بداية التحولات السياسية في المنطقة. عانت الأحزاب الإسلامية من هزائم كبيرة، من الانقلاب المصري عام 2013، إلى المصير المأساوي للمعارضة السورية التي تتحول إلى مرتزقة، والانقلاب الأخير لقيس سعيد في تونس ضد البرلمان.
على الرغم من أن المعارك الفكرية لن تكون السمة المميزة للسياسة على المستوى الوطني، إلا أن النخب والمجتمعات في جميع أنحاء الشرق الأوسط تظل شديدة الاستقطاب خاصة في البلدان التي تمر بصراعات أو بمراحل انتقالية. على وجه الخصوص، أصبح الانقسام بين الديمقراطية والاستبداد أكثر وضوحًا مع زيادة قمع الأنظمة الاستبدادية. بهذا المعنى، فإن انعدام الأمن عند الحكام المستبدين كنتيجة للربيع العربي قد تضاءل، لكنه لم يتبخر.
رابعًا، سيطرت القضايا الجيوسياسية والأيديولوجية على جدول الأعمال الإقليمي خلال العقد الماضي. ونتيجة لذلك، كان هناك فصل بين السياسات الخارجية والمصالح الاقتصادية للمنافسين الإقليميين. بعد انهيار أسعار النفط عام 2014، أثرت هذه الفجوة على التعاون التجاري والاستثماري بين دول الجوار. كان الحصار المفروض على قطر عام 2017 مكلفًا ماليًا للجميع، وأدت جائحة كوفيد19 إلى تفاقم التوترات ودفع المنطقة إلى ركود حاد. مع استمرار حالة عدم اليقين بشأن الاقتصاد العالمي، أعطت الدول الأولوية للتعافي الاقتصادي، من ضمن ذلك استعادة العلاقات الاقتصادية مع الدول الخارجة. هذه الديناميكية واضحة للعيان في العلاقة بين تركيا والإمارات العربية المتحدة وفي انفتاح كل منهما على المنافسين. قد تفتح القومية الاقتصادية، التي تشكل بازدياد العلاقات الخارجية للمملكة العربية السعودية، الباب لتحسين العلاقات مع الخصمين تركيا وإيران.
افاق المستقبل
على الرغم من كل الحديث عن دخول المنطقة في حقبة ما بعد الربيع العربي، من لبنان إلى الجزائر والعراق إلى السودان وتونس، استمرت الاحتجاجات العامة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. يمكن لهذه الاحتجاجات أن تزيد من شعور انعدام الأمن عند الأنظمة الاستبدادية وتعيد إشعال الصراعات الأيديولوجية. يمكن للصراعات المجمدة أن تشتعل نتيجة لأي عوامل تفجير. من الممكن أن يتم انتخاب شخصية شبيهة بترامب في عام 2024. بالإضافة إلى ذلك، كما قال المبعوث الأمريكي الخاص إلى إيران روب مالي، فإن احتمالات إحياء الاتفاق النووي لعام 2015 مع طهران قاتمة بشكل متزايد. يمكن أن تؤدي الأزمة المتصاعدة مع إيران إلى تفاقم التوترات في الخليج مع تداعياتها على المنطقة بشكل عام.
لتجنب حدوث تراجع لحالة التهدئة الحالية، يجب على اللاعبين الدوليين دعم الجهات الفاعلة الإقليمية بنشاط من خلال أطر متعددة الأطراف تعمل على ترسيخ مكاسب التعاون بدل الصراع وجعلها مستدامة. لا ينبغي أن تكون المبادرات مثل مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، الذي عُقد في أغسطس 2021 بمشاركة كبيرة من قادة المنطقة، حدثًا لمرة واحدة. بدعم من الولايات المتحدة، يجب أن يتحول إلى منصة وعملية لحوار أصحاب المصلحة المتعددين حول تحديات الأمن والتنمية المشتركة التي تواجه الشرق الأوسط اليوم بما في ذلك الإرهاب واللاجئين والأمن الغذائي والهجرة.